مشاركة المغتربين في انتخابات 2022: إلغاء المقاعد الستة شرط أساسي للمساواة بين الناخبين المقيمين وغير المقيمين
يشكّل الاقتراع العام، والحرية الكاملة في ممارسة هذا الحق، الوسيلة الأبرز في التعبير الحر عن إرادة المواطن بالمشاركة في إدارة الشؤون العامة في بلده. ويعد هذا الحق، بامتياز، المصدر الشرعي للسلطات المنتخبة. وهو لا يميز بأي شكل من الأشكال بين المواطن المقيم وغير المقيم، أي أنه لا يرتبط، خصوصا في الانتخابات العامة، بمكان السكن او قيد الإقامة، بل أن العامل المحدد في اكتساب هذا الحق مرتبط بتمتع المواطن بحقوقه السياسية.
إن اقتراع غير المقيمين في بلدهم هو حق معترف فيه دولياً، فإن العديد من الدول لجأ في القرن العشرين إلى بحث وإقرار الآليات التي تؤمن للمواطنين الذين يعيشون خارج حدود الوطن الأم حقوقهم بالمشاركة في العملية الانتخابية، وبالتالي في اختيار ممثليهم كسائر المواطنين. فظهر ما يُعرف بحق الاقتراع للمغتربين والمهاجرين، أو ما يعرف اصطلاحاً بحق "الاقتراع لغير المقيمين".
في لبنان يرتدي حق اقتراع غير المقيمين أهمية كبيرة، لعل أبرزها العدد الكبير للمغتربين اللبنانيين نسبة إلى عدد السكان، والتي تعتبر بالنتيجة، هجرة قسرية بسبب السياسات الكارثية. كما أنها تضمن للمغتربين الاستمرار في ممارسة حقوقهم السياسية بشكل فعّال ومستمر من دون انقطاع عن الاهتمام بالشأن العام وتطوراته، خصوصاً وأن عدداً كبيراً منهم يتابع الحدث السياسي اللبناني بشكل شبه يومي وغير منقطع، الأمر الذي يجعلهم على دراية تامة بتفاصيل الواقع السياسي المحلي.
فالانهيار الاقتصادي والمالي الحاصل، أضر بعدد كبير من المغتربين المودعين الذين خسروا أموالهم، أو ما زالت محتجزة في المصارف، شأنهم شأن المقيمين. فمنذ 17 تشرين الأول 2019، أظهر المغتربون اهتماماً كبيراً في ما يجري في لبنان، من خلال التظاهرات التي نظمت في معظم الدول التي يتواجدون فيها، ما يؤشر إلى وجود رغبة كبيرة في الانخراط بالشأن العام اللبناني بطريقة مباشرة. كما انتظم المغتربون في مجموعات سياسية مستقلة خاصة بالاغتراب، أو انضموا إلى مجموعات سياسية متواجدة في لبنان، وهم يشكلون اليوم حالة سياسية قائمة بذاتها، تستوجب ضمان حقها بالمشاركة في الانتخابات للتعبير عن خياراتها. ففي ظل الانهيار غير المسبوق الذي يواجه المقيمين في لبنان، يشكل المغتربون اليوم فئة قادرة على لعب دور سياسي في لبنان أو في الدول المتواجدين فيها بشكل فعال، بحيث تكون قدرة الاغتراب على التحرك في ظروف أفضل نسبياً مما هي في لبنان، متحررين من الواقع الاقتصادي الاجتماعي، وكذلك من الضغوط المباشرة للسياسيين.
كما أن مشكلة اقتراع غير المقيمين ليست في منحهم حق الاقتراع فقط، بل هي محصورة في إمكانية ممارسة هذا الحق خارج لبنان. فاللوائح الانتخابية (أو ما يُعرف بلوائح الشطب) في لبنان، مبنية على مبدأ الاقتراع في مكان قيد الأحوال الشخصية (مكان الأصل)، حيث يتم الانتخاب على أساس قيد سجل النفوس، وليس في مكان السكن الدائم أو مكان السكن الأساسي. فالمسألة إذن لا تتعلق في منح المغتربين حق الاقتراع، فمن حق كل لبناني أتم الحادية والعشرين من عمره، سواء أكان مقيماً أو غير مقيم على الأراضي اللبنانية، أن يمارس حق الاقتراع طالما أن اسمه وارد في سجلات الأحوال الشخصية، وأن لا يكون ثمة مانع قانوني يحول دون ممارسة حقه في الاقتراع، بل هي محصورة في تأمين إمكانية ممارسة هذ الحق في مكان الإقامة خارج الأراضي اللبنانية. بهذا المعنى، فإن أي لبناني (مقيم أو غير مقيم) تتوفر فيه شروط الانتخاب؛ كشرط العمر، أو أن يكون غير محروم من حق الاقتراع، هو حتماً ناخب، من دون الحاجة إلى القيام بأي إجراء آخر. لذلك، فإن مسألة اقتراع غير المقيمين مرتبطة حصراً بضمان حق غير المقيمين في ممارسة هذا الحق في مكان إقامتهم.
وحتى العام 2008، لم تلحظ القوانين الانتخابية في لبنان مسألة تنظيم اقتراع غير المقيمين في الخارج. ولكن مع إقرار القانون 25/2008 جرى تنظيم هذه العملية مع استبعاد تطبيقها في الانتخابات العامة للعام 2009. على الرغم من أن قانون الانتخابات النيابية 25/2008 قد نص على اقتراع غير المقيمين في الخارج. إلا أن التحول الأبرز في مشاركة غير المقيمين حصل مع إقرار قانون الانتخابات 44/2017، الذي سمح لغير المقيمين من المشاركة في الانتخابات النيابية للمرة الأولى منذ نشوء الجمهورية اللبنانية في الانتخابات النيابية للعام 2018 في الدول المتواجدين فيها.
وقد نص القانون على حق اقتراع كل مواطن غير مقيم في انتخابات العام 2018 في الدائرة الانتخابية حسب مكان قيده في لبنان، على أن تتم إضافة 6 مقاعد لتمثيل غير المقيمين في الانتخابات اللاحقة، أي في انتخابات العام 2022، ليرتفع عدد المقاعد إلى 134، على أن يخفض ستة مقاعد من عدد أعضاء مجلس النواب الـ 128 من نفس الطوائف التي خصصت لغير المقيمين ابتداء من انتخابات العام 2026. كما نص القانون على أن توزع هذه المقاعد بالتساوي على القارات الست وعلى المسيحيين والمسلمين، حيث يعطى مقعد واحد لكل من الموارنة، والروم الأرثوذكس، والروم الكاثوليك، والسنة، والشيعة، والدروز (المادة 112)، على أن يجري الاقتراع في الخارج على أساس النظام النسبي ودائرة انتخابية واحدة قبل 15 يوماً على الأكثر من الموعد المعين للانتخابات في لبنان، ما يعني أن المغتربين سوف يقترعون في دائرة افتراضية تغطي قارات العالم الست، في حين يقترع المقيمون في إحدى الدوائر الـ 15 المنصوص عليها في القانون.
وعلى الرغم من أهمية هذا التحول، لم تأخذ مسألة تنظيم اقتراع المغتربين، لا سيما جدوى استحداث المقاعد الخاصة لتمثيلهم، حقها في النقاش العام المرافق لإقرار قانون الانتخابات 44/2017. وضاعف من هذا الامر تأجيل استحداث المقاعد الستة الى انتخابات 2022 ومشاركة المغتربين في انتخابات 2018 في دوائر مكان قيدهم في لبنان. فتركز النقاش بشكل رئيسي على مسألة النظام الانتخابي المعتمد على حساب الإصلاحات الأخرى، ومن ضمنها تنظيم اقتراع المغتربين.
وفي ظل المخاوف المشروعة حول نية أو رغبة السلطة السياسية في تأجيل الانتخابات أو إلغائها، كما جرى بين الأعوام 2013 و2017، ترتدي مسألة اقتراع غير المقيمين أهمية قصوى في هذه المرحلة، كونها المؤشر الأوضح على نية السلطة في التعامل مع الاستحقاق الانتخابي ككل، الأمر الذي يطرح اليوم مجموعة تحديات حول مشاركة هذه الفئة من اللبنانيين، إن كان لجهة إشكالية المقاعد الستة المخصصة للاغتراب وتعارضها العملي مع مبدأ المساوة بين الناخبين المقيمين وغير المقيمين، وكذلك تقاعس السلطة عن إطلاق عملية التسجيل وزيادة عدد المراكز الانتخابية، وضرورة حماية البيانات الشخصية للمواطنين غير المقيمين.
العمل على إلغاء المقاعد الستة المخصصة للاغتراب
بموجب قانون الانتخابات المعمول به حالياً، يُفترض أن ينتخب اللبنانيون غير المقيمين 6 نواب يمثلونهم في انتخابات 2022. إضافة المقاعد الستة هذه، سوف تحد من فعالية الصوت الاغترابي في هذه المقاعد، الأمر الذي سوف يحد أيضاً من فعالية وتأثير هذه الفئة من اللبنانيين على مجمل العملية الانتخابية في الدوائر الـ 15 في لبنان. إن تكريس مبدأ المساوة بين جميع اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين، يفترض ضمان حق المغتربين في الاقتراع وفق دوائر قيدهم. كما أن هذا النظام الانتخابي في ظل الأحكام النافذة خلق دائرة انتخابية هجينة تمتد على القارات الست، بحيث يقترع جميع غير المقيمين وتتشكل لوائح من المرشحين في فضاء جغرافي غير متجانس، الأمر الذي يصعّب من خيارات الناخبين، وكذلك من حملات المرشحين، والذي ستستفيد منه حتماً أحزاب السلطة. كما ترى أن سلوك الناخب اللبناني ومقاربته للشأن العام، تجعله مرتبطاً بشكل مباشر بالواقع السياسي المحلي في لبنان، خصوصاً وأن القسم الأكبر منهم يتابع السياسة الداخلية، ما يجعلهم قادرين على تحديد خياراتهم الانتخابية في الدوائر الانتخابية المختلفة.
لذلك، يتوجب الضغط من أجل تعديل قانون الانتخابات وإلغاء كل المواد المتعلقة باستحداث المقاعد الستة المخصصة لغير المقيمين وضمان حقهم في الاقتراع لصالح اللوائح في دوائر مكان قيدهم في لبنان، كما كان الحال عليه في انتخابات العام 2018، على أن لا يتم استغلال هذا الأمر من قبل السلطة من أجل تبرير تأجيل الاستحقاق الانتخابي.
الإسراع في عملية تنظيم إجراءات التسجيل في السفارات والقنصليات
منح القانون السلطة التنفيذية صلاحية اتخاذ كافة القرارات من أجل ضمان تطبيق القواعد الخاصة باقتراع غير المقيمين، إما عبر قرارات تتخذها اللجنة المشتركة بين وزارتي الداخلية والخارجية (المادة 123) أو عبر مراسيم تطبيقية يتخذها مجلس الوزراء (المادة 124). كما ينص على قيام وزارة الداخلية بالتنسيق مع وزارة الخارجية وبواسطة السفارات والقنصليات اللبنانية، بحثّ اللبنانيين في الخارج ممن تتوافر فيهم الشروط، للإعلان عن رغبتهم بالاقتراع وتسجيل أسمائهم عبر الحضور الشخصي، أو بموجب كتاب موقع أو بموجب التسجيل الإلكتروني، على ان ألّا تتجاوز المهلة المعطاة للتسجيل يوم 20 شهر تشرين الثاني 2021 .
في هذا الصدد، وفي 1 أيار 2021، عقدت نائبة رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع الوطني والخارجية والمغتربين بالوكالة في حكومة تصريف الأعمال زينة عكر ووزير الداخلية والبلديات محمد فهمي اجتماعاً في وزارة الخارجية بحضور عدد من كبار الموظفين في الوزارتين، وبحث المجتمعون في التحضيرات للاستحقاق الانتخابي لسنة 2022 والذي سيجري للمغتربين في الخارج ومراحل تنفيذ الانتخابات، إضافة إلى آلية التسجيل المناسبة، وضرورة إيجاد حلول للمعوقات التي حصلت في الانتخابات الماضية، مع الأخذ في الاعتبار انتخاب 6 نواب سيمثلون المغتربين. وقد تقرر تأليف اللجنة المشتركة من وزارتي الخارجية والداخلية والتي ضمت الوزيرين عكر وفهمي والأمين العام للخارجية هاني الشميطلي والمدير العام للأحوال الشخصية العميد الياس خوري والمديرة العامة للشؤون السياسية واللاجئين في وزارة الداخلية فاتن يونس، على أن تستعين اللجنة لاحقاً بمن تراه مناسباً، وجرى الاتفاق على عقد اجتماعات دورية لمتابعة هذا الملف.
وبتاريخ 26 تموز 2021 أصدرت وزيرة الخارجية تعميماً إلى جميع البعثات الدبلوماسية والقنصلية اللبنانية في الخارج حول التحضير للانتخابات النيابية للعام 2022، تطالب فيها بتزويدها بتقييم عن أوضاع الانتخابات التي حصلت في العام 2018، والعقبات التي واجهتها في خلالها لتجنبها هذه المرة، مع تلميح في الوقت نفسه إلى الضائقة المالية التي تعيشها الخزينة اللبنانية. كما طالبت بتقديم اقتراحات من شأنها ضمان اقتراع غير المقيمين. وطلبت الوزيرة من البعثات إجراء الاتصالات بالسلطات المختصة وإعلامها برغبة لبنان إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها الدستورية، وطلب فتح أقلام اقتراع خارج البعثات الدبلوماسية والقنصلية وفقاً للانتشار الجغرافي للجاليات اللبنانية. كما طالبت الوزيرة من البعثات إفادتها بالنتائج في مهلة أقصاها 23 آب 2021 .
على الرغم من الإجراءات الأولية التي اتخذتها وزارتا الداخلية والخارجية، لم تتخذ السلطة التنفيذية أي إجراءات جدية أو تعطي إشارات عن استعدادها للقيام بذلك، الأمر الذي يطرح علامات استفهام ومخاوف حقيقية من عدم الرغبة في تنظيم عملية اقتراع غير المقيمين، كما ان ما أتخذ الى الآن لا يشكل أي ضمانة عن وجود التزام جدي لتنظيم الاقتراع في الخارج، خصوصاً وأنه في الأعوام 2013 و2014 قامت السلطة التنفيذية بالإجراءات المطلوبة منها، ولكن ذلك لم يحُل دون إلغاء الانتخابات والتمديد للمجلس النيابي.
إن استمرار السلطة التنفيذية بالتلكؤ في المتابعة الجدية لملف التسجيل لاقتراع غير المقيمين، من شأنه أن يشكل خطراً على عملية اقتراعهم في الخارج برمتها، سيما وأن القانون لا ينص على مهلة لفتح باب التسجيل. وقد جرى في انتخابات 2018 أن التعميم رقم 52 الذي نظم عملية التسجيل قد صدر في 18 أيلول 2017، كما أن إطلاق الموقع الرسمي لتسجيل الناخبين غير المقيمين قد بدأ في 2017/10/1.
لذلك، وبالتوازي مع التحرك من أجل الغاء المقاعد الستة، ينبغي الاستمرار في ممارسة الضغط على السلطة لتنفيذية من أجل العمل فوراً ودون إبطاء على اتخاذ الإجراءات العملية للإسراع في إطلاق عملية التسجيل في السفارات والقنصليات، وكذلك تفعيل المنصة الإلكترونية للتسجيل وتحديد قواعد التسجيل والتي من دونها لا يمكن لغير المقيمين ان يقترعوا في الخارج.
استحداث مراكز الاقتراع
لقد أظهرت انتخابات العام 2018 أن غياب العدد الكافي من المراكز الانتخابية في عدد من الدول، لا سيما الكبيرة منها، أن عدداً كبيراً من المغتربين أحجم عن التسجيل، أو لم يستطع الانتقال إلى المراكز الانتخابية في يوم الاقتراع. إن هذا الواقع يفرض على السلطة التنفيذية التعامل بجدية ومسؤولية مع مسألة وزيادة عدد مراكز الاقتراع وضمان انتشارها الجغرافي الفعال، لا سيما في المدن والمناطق البعيدة عن السفارات والقنصليات من أجل ضمان أوسع مشاركة.
حماية البيانات الخاصة بغير المقيمين
إن حماية البيانات الشخصية للمغتربين يشكل ضمانة للمساواة بين جميع المرشحين، ويحمي المواطنين من الضغوط المباشرة وغير المباشرة التي يمكن أن يتعرضوا لها من قبل أحزاب السلطة. إذ يتوجب على وزارتي الداخلية والخارجية ضمان حماية البيانات الخاصة بغير المقيمين في مختلف مراحل التسجيل. ففي انتخابات العام 2018 سجل لجوء عدد من أحزاب السلطة إلى التواصل مع عدد من المواطنين غير المقيمين لحثهم على التسجيل، بعد أن حصلوا على البيانات من السفارة بطريقة غير رسمية وغير قانونية. إذ إنه ينبغي ضمان المساواة بين المرشحين في الحصول على القوائم الانتخابية الخاصة بالمغتربين. كذلك، ينبغي ضمان عدم حصول أحزاب السلطة على اللوائح الخاصة بالتسجيل في السفارات قبل نشرها بشكل رسمي وفي الوقت الموحد قانوناً.
اليوم، ومع اقتراب موعد الانتخابات النيابية للعام 2022 التي تشكل محطة تاريخية لمسار التغيير السياسي والاجتماعي في لبنان، سيكون للصوت الاغترابي دوراً سياسيا وقوة انتخابية حاسمة. فالمغتربون هم كتلة انتخابية هامة تؤثر في نتيجة أي انتخابات مقبلة إذا كانت مشاركة هؤلاء فعالة وكثيفة.
لذلك، فان تكريس المساواة الكاملة في ممارسة حق الاقتراع العام والتصدي لتهميش المغتربين يستوجب إلغاء المواد الخاصة باستحداث المقاعد الستة لغير المقيمين، وضمان المشاركة الفعالة للمغتربين في الانتخابات النيابية المقبلة عبر الاقتراع لصالح اللوائح في دوائر مكان قيدهم في لبنان، كما كان الحال عليه في انتخابات العام 2018. كما ان الضغط من أجل الإسراع في اقرار هذا التعديل من ِشأنه افساح المجال امام المغتربين لمعرفة طريقة مشاركتهم في الانتخابات قبل مهلة معقولة من انتهاء مهلة التسجيل في السفارات والقنصليات والمحددة قانونا في 20 تشرين الثاني 2021.