زارت بعثة صندوق النقد الدولي لبنان من أجل تقييم تقدّم السلطات في تنفيذ الإصلاحات المُتفق عليها في الاتفاقية المعقودة على مستوى الموظّفين منذ نيسان 2022. تأتي هذه الزيارة بعد ستة أشهر على اختتام بعثة مشاورات المادة الرابعة مهمّتها في آذار الماضي، وإصدار تقريرها الأول منذ انفجار الأزمة في تشرين الأول 2019، والذي ضمّنته الكلفة الباهظة المُترتبة عن عدم القيام بالإصلاحات على الاقتصاد والمالية العامة وإمكانية النهوض والتعافي وفرص ردّ الودائع. ومع ذلك، ترفض السلطة المضي في مسار الإصلاحات المطلوبة من أجل التصدّي لأعمق أزمة يواجهها لبنان في تاريخه الحديث، والتي تترافق مع شغور في الرئاسة الأولى وجمود في السلطة التنفيذية. أمّا النتيجة فقد كانت متوقّعة: لم تعد مناقشة البرنامج مطروحة بسبب عدم إحراز أي تقدّم فيما يتعلّق بالإجراءات التي التزمت بها السلطات وبسبب غياب المحاورين المؤسّسيين.
أمام هذا الواقع، اجتمعت «كلّنا إرادة» مع بعثة الصندوق من أجل التأكيد على مواقفها فيما يتعلّق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي والسياسات النقدية والدور المطلوب من المصرف المركزي في هذا المفترق الحرج، فضلاً عن السياسات المالية والموازنة العامّة، ولو أن الأزمة الراهنة تتشّعب على جوانب اقتصادية ومالية واجتماعية عدّة. كما شدّدت "كلنا إرادة" على أن الإصلاحات لا تشكّل بديلا عن تحمّل المسؤوليات، بل يجب أن تترافق مع محاسبة المسؤولين عن الأزمة المالية.
مفترق حاسم
في الواقع، أمام عمق هذه الأزمة وخطورتها على المجتمع والمستقبل، يقف لبنان أمام سيناريوهين:
إمّا سيناريو السلطة وهو واضحٌ ومرفوضٌ بالمطلق. بدلاً من إقرار القوانين والإجراءات المطلوبة من أجل التعافي المالي، وأهمّها إعادة هيكلة المصارف وإعادة التوازن إلى المالية العامة، تستمرّ السلطة في ليلرة الودائع التي توزِّع الخسائر باعتباطية، وتعيد هيكلة المصارف بشكلٍ تعسّفي ومنفصلٌ عن أي خطّة للنهوض، بالتوازي مع استمرار العمل بتعدّدية أسعار الصرف، وتحجيم دور الدولة التي تعمل بموجب موازنة عامّة قُلّصت إلى أدنى المستويات. يجري كلّ ذلك خدمة لمصالح قلّة مُتحكّمة بالسلطة والاقتصاد على حساب مصلحة المودعين والمواطنين، ويعبّر هذا الواقع عن التهرّب المستمرّ من مسؤوليّة النهوض بالبلاد وتركها عرضة للفراغ والمجهول. الأفق الوحيد لهذه السياسة غير المسؤولة، إن لم نقل الإجرامية، هو انهيار إضافي في الناتج المحلّي الإجمالي بمجرّد أن تصبح الاحتياطيات المتبقية في البنك المركزي غير كافية للتعويض عن العجز الخارجي البنيوي في الاقتصاد اللبناني.
أو السيناريو الإصلاحي، الذي يقضي بإطلاق مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، واتباع نهج جديد في إدارة المصرف المركزي، والمباشرة بإصلاحات تعيد التوازن للمالية العامّة، وتنفيذ سياسات نقديّة مُنسجمة مع سياسات مالية وخطّة اقتصادية لإنعاش النموّ.
وفي الواقع، لا يمكن استنهاض النمو من دون إمكانيّات جديدة لتمويل الاقتصاد من خلال إعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي والموازنة، وهو أمر مستحيل من دون برنامج مع صندوق النقد الدولي. علماً أنه كلّما مرّ الوقت كلّما ارتفعت تكلفة إعادة الهيكلة. وبالفعل خسر لبنان نحو 30 مليار دولار من احتياطياته بالعملات الأجنبية منذ تشرين الأول 2017.
أولويّات المرحلة
أولاً؛ إعادة هيكلة القطاع المصرفي ليستعيد دوره في تمويل الاقتصاد
يعرقل البرلمان والحكومة اللبنانية عملية إعادة هيكلة المصارف من خلال عملية تقاذف المسؤوليّات، التي تهدف إلى ترسيخ نهج الإفلات من العقاب والتهرّب من المسؤولية، والتي تؤدّي إلى زيادة الخسائر يوماً بعد يوم بما فيها تلك المُترتبة على المودعين، عدا عن تناقص الموارد المُتاحة للنهوض.
إعادة هيكلة القطاع المصرفي يجب أن تتمّ وفق الأولويات التالية:
ثانياً؛ استعادة أدوار المصرف المركزي في حماية الاستقرار النقدي والاقتصادي وتطوير القطاع المصرفي
تمتلك حاكمية مصرف لبنان صلاحيّات واسعة ودوراً قيادياً في تنفيذ الإصلاحات الأساسية للنهوض بالاقتصاد الذي يوجب عليها:
استعادة صدقية مصرف لبنان وسلطته من خلال الحوكمة الرشيدة، عبر:
استعادة السيطرة على السيادة النقدية والحدّ من الاقتصاد غير الرسمي من خلال:
ثالثاً؛ اعتماد سياسة مالية ترسّخ نموذج اقتصادي واجتماعي قادر على إطلاق عجلة النمو
يفترض بالسياسة المالية والموازنة العامّة أن تضع نصب عينيها هدف تحقيق صدمة استثمارية إيجابية وتحفيز النمو المدفوع بنشاط القطاعات المنتجة وتصدير السلع والخدمات التنافسية لكي لا يبقى الاقتصاد عند المستويات المنخفضة الحالية حتّى سنوات إن لم يكن عقوداً مقبلة. وهذا ما يستوجب:
إصلاح المالية العامّة وإعادة توجيه الإنفاق العام في خدمة الاقتصاد والمجتمع
1. وضع خطط لاستعادة الانتظام المالي المُستدام وإعادة هيكلة الدين العام. في حين انخفضت الموازنة العامة لعام 2024 إلى نحو 3.4 مليار دولار (وفق سعر السوق البالغ 89 ألف ليرة لبنانية) بالمقارنة مع 17 مليار دولار في العام 2019، بلغ العجز نحو 14% من مجمل النفقات، في ظل انعدام الحلول لتمويله. أما التمويل المُتاح بالعملات الأجنبية فهو الاحتياطيات المتبقية لدى مصرف لبنان.
2. إصلاح النظام الضريبي ليكون أكثر تقدّمية وعدالة بما يتيح مكافحة اللانظامية في الاقتصاد والتهرّب الضريبي، وتعزير اللامركزية المالية لتحقيق التنمية الفعّالة، ورفد الدولة بالإيرادات اللازمة التي تسمح لها بتأدية واجباتها.
3. إصلاح المالية العامّة عبر سلسلة من الإجراءات أهمها ترشيد النفقات العامة من خلال إصلاح الإدارة العامة ومهامها، وتعزير الإنفاق في المكامن الضرورية للإنعاش الاقتصادي والحماية الاجتماعية لا سيما الصحّة والتعليم ونظام التقاعد، وتوجيه الإنفاق نحو الاستثمار في البنية التحتية لتوليد النموّ من خلال الشراكات بين القطاعين العام والخاص، لا سيما في قطاعات الاتصالات والكهرباء والنقل العام والمياه وإدارة النفايات والسياحة.
لا إصلاح من دون محاسبة
في الخلاصة، لا بدّ من التذكير بضرورة اتباع المحاسبة نهجاً، والتشديد على الدور الأساسي للقضاء الذي يتلكأ حتى اليوم في ملاحقة الجرائم المالية. إذ يتوجّب على القضاء اللبناني التحرّك في ملف التدقيق الجنائي من أجل محاكمة المسؤولين عن الأزمة وتبيان حقيقة ما ارتُكِب في خلال السنوات الثلاثين الماضية، وكذلك متابعة ملفات رياض سلامة وملاحقته لصون العدالة محلّياً كما التعاون في هذا الإطار مع الأجهزة القضائية الخارجية.