أحيل مشروع قانون الموازنة لعام ٢٠١٩ إلى مجلس النواب كدليل على جدّيّة الحكومة في إصلاح الماليّة العامة.
فعلى الورق، تؤكّد الحكومة عزمها تقليص العجز العام وفقاً للتعّهدات التي قامت بها في مؤتمر "سيدر" والتي أعادت التأكيد عليها في بيانها الوزاريّ. وكانت نسبة العجز المرجوّة هي ٧،٥% من إجمالي الناتج المحليّ فأتى مشروع موازنة العام ٢٠١٩ تحديدا ليصيب هذا الهدف ويقدّم الرقم نفسه تقريبا الا وهو ٧،٥٨٪.
والحقيقة هي أنّ الوعود لا تلزم إلاّ من يتلقاها. فعلى غرار كلّ عضو في البرلمان مدعوّ إلى التصويت على هذا القانون، تواجه "كلّنا إرادة" خيارًا صعبًا نظراً لهشاشة الوضع الماليّ في لبنان. فجميعنا يرتعد خوفاً من احتمال انهيار كامل في حال تحوّلت الأزمة الكامنة الناجمة عن الخيارات الاقتصاديّة والماليّة التي اعتُمدت منذ بداية التسعينيات إلى أزمة مفتوحة على مصراعيها.
ولا شكّ في أنّ العلامات التي تدعو إلى القلق كثيرة ولا تتمحور فقط حول العجز الماليّ أو حول الدين كما يستقى من خطاب السلطات المعنيّة. فإلى جانب المخاوف الجليّة والتي بقيت رغم ذلك خارج إطار البحث – كالبطالة المستشرية والفقر الذي يؤدّي إلى سيول من الهجرة تستنزف البلاد - يتمثّل الخطر الأكثر وشاكة في نقص الدولارات اللازمة لتمويل اقتصاد يرزح تحت ثقل الديون.
- وقد ارتفع العجز في ميزان المدفوعات إلى ٣٣٠٤ مليار دولار أمريكيّ في الأشهر الأربعة الأولى من العام ٢٠١٩، أيّ بنسبة ٦٨،٥٠% من رصيد العام ٢٠١٨ بأكمله.
- وبالتالي لم يعد منذ أشهر بإمكان الخزينة اللجوء إلى "الأسواق" لتمويل الدولة سواء بالعملة الأجنبيّة أو اللبنانيّة. ففي الفترة الأولى من العام ٢٠١٩ وحدها، قام البنك المركزيّ بصرف ٢١٥٢ مليار دولار لدفع استحقاقات الدين العام بالعملات الأجنبيّة (بما يتضمّن سداد أصل الدين ودفع الفوائد).
- أمّا من جهة القطاع الخاص، فلا تزال الأرقام تشير بشكل خجول إلى حقيقة تفرض نفسها في السوق الا وهي أنّ القروض المموّلة للاقتصاد باتت تنضب.
ونحن بطبيعتنا البشريّة نميل إلى التفاؤل دوماّ وإلى الإعتقاد بأنّ الأمور ستسوّى من تلقاء نفسها وإلى الوثوق بمن نُصّب وليّاً على مصلحتنا الوطنيّة. إلّ أنّ مسؤوليتنا الوطنيّة لا بدّ أن تدفع بنا إلى طرح الأسئلة حول السياسات العامة والمطالبة بالمساءلة ولا بدّ أن يمرّ ذلك بتحليل للموازنة المقترحة والحرص على صدقية الأرقام المعلنة.
يستند نص مشروع قانون الموازنة العامة المعروض على المجلس النيابي إلى العناصر التالية:
- الحدّ من ارتفاع أسعار الفائدة ذات الآثار الكارثية، من خلال الحفاظ على "الثقة" عبر إرضاء الجهات الدولية المعنية بمؤتمر “سيدر”.
- ويكمن الرهان في كسب الوقت إلى أن يتمّ اكتشاف حقل غاز أو نفط يتيح للبنان استعادة ملاءته، وهو هدف منصوص عليه بوضوح في فذلكة الموازنة.
- ومن أجل تحقيق ذلك، خفتت الوعود بإجراء إصلاحات هيكليّة وحلّت محلّها مقاربة حسابيّة تركّز على التقشف الماليّ: فعلى الرغم من المقترحات الخجولة لمكافحة التهرب الضريبيّ، يحفل مشروع القانون بتدابير ميزتها الرئيسيّة هي سهولة التنفيذ (بغض النظر عن نجاعتها الاقتصاديّة أو عدالتها أو تأثيرها السياسيّ) وغياب أي تناسق إجمالي فيما بينها. ذلك علما أنه تم الإبقاء تقريبا على نفس النفقات التي تم رصدها في الموازنة الفائتة، علما أنه تم تجاوزها بمبلغ ٨٠٩ مليار ليرة لبنانية عام ٢٠١٨.
وفي هذا الصدد يهمنا ابداء نوعين من المخاوف:
- أولاً، لجهة مصداقيّة الموازنة
- وثانياً لجهة السياسة الوطنيّة التي من المفترض أن تعكسها هذه الموازنة: فحتى لو تمّ احترام الأرقام المعلنة، يبقى مشروع الموازنة بعيداً كلّ البعد عن الاستجابة للرهانات الوشيكة التي يواجهها لبنان. هذا، ناهيك عن عدم دستوريّة العمليّة برمّتها:
- فقد تمّ إحالة مشروع الموازنة الى مجلس النواب بعد انقضاء نحو نصف السنة المعنية، في خرق واضح للمهل الدستوريّة.
- كذلك لم يتمّ تقديم مشروع قانون قطع الحساب لموازنات السنوات السابقة إلى مجلس النواب رغم أنّ هذا شرط دستوريّ أساسيّ لإقرار أيّ قانون موازنة.
- كذلك يحفل مشروع القانون "بفرسان الموازنة" وهي ممارسة تتمثّل في تمرير بعض الأحكام التي لا علاقة لها بالتوازن الاقتصاديّ والماليّ لحسابات الدولة في قانون الموازنة العامة.
١- بالنسبة لشكوكنا حول مصداقيّة الأرقام المقدرة في مشروع موازنة العام ٢٠١٩
- لا يوجد أي جهاز إحصائيّ موثوق به يسمح بالتحقّق من صحّة الأرقام المقدرة مهما كانت. حتى أنّ مشروع القانون يسمح لنفسه تقديم تقرير أداء غير مكتمل لموازنة العام ٢٠١٨ ممّ يعقّد عمليّة المقارنة على أساس سنويّ (ففي نهاية شهر اياّر ٢٠١٩، لم تكن الأرقام متوفّرة إلا في ما يخصّ الأشهر الإحدى عشر الأولى من العام ٢٠١٨.
- يصبح من الأسهل تحقيق نسبة عجز منخفضة من إجمالي الناتج المحلي كلما كان إجمالي الناتج المحلي مرتفعاً. والفرضيّة الأساسيّة لمشروع الموازنة هي أنّ معدّل النموّ سيبلغ ١،٢ % في العام ٢٠١٩، وهو رقم أقلّ ما يقال عنه أنّه متفائل بحسب مؤشّات النشاطات الاقتصادية الرئيسيّة في بداية العام.
- أخيرًا، إنّ الوتيرة السريعة التي عُدّلت بها الأرقام من نسخة موازنة إلى أخرى تثير الشكوك حول مصداقيّة هذه الأرقام وتعزّز الانطباع القائم وهو أنّ هدف الموازنة الأساسي هو تحقيق أهداف "سيدر" على الورق.
- حُدّد حجم الإنفاق في مشروع الموازنة بمبلغ قدره ٢٥٨٤٠ مليار ليرة لبنانيّة. إلّ أنّ هذا الرقم المقدّر مشكوك فيه لعدّة أسباب:
- يركّز الجزء الأكبر من الجهود المبذولة لتخفيض الإنفاق على تثبيت خدمة الدين من خلال إصدار سندات خزينة بمعدل متدنّ نسبته ١٪. إلاّ أنّ هذا الإجراء لا يعتمد على أيّ اتفاق رسميّ بل هو في أفضل الأحوال نتيجة اتفاق شفهيّ لم يوضع موضع التتنفيذ بعد بين وزارة الماليّة ومصرف لبنان. وإذا لم تمتثل المصارف لهذا القرار سوف يتعيّ على مصرف لبنان ملء الفراغ في التمويل مرًةً أخرى ممّ سيزيد من العجز شبه الماليّ الذي يحمله في ميزانيته - وذلك بغياب أيّ شفافيّة في هذا الخصوص.
- لم يتمّ احتساب المتأخرات المستحقّة لأطراف مختلفة والتي تقدّر قيمتها بمئات ملايين الدولارات (كالمستشفيات، والمقاولين، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعيّ، والمؤسسة الوطنيّة لضمان الودائع(.
- لا يقدّم مشروع الموازنة أي تقديرات حول سلفات الخزينة التي استخدمت لسنوات عديدة من أجل تغطية فائض الإنفاق، التي نتج عنها مبلغ قدره ٩٣٤ مليار ليرة لبنانيّة من إجمالي العجز للعام ٢٠١٨. وقد شدّد البنك الدولي مرارًا وتكرارًا على هذه النقطة كموطن رئيسيّ من مواطن الضعف في إدارة الماليّة العامة. ولكنه تمّ تجاهل هذه المسألة بكلّ بساطة في مشروع الموازنة لعام ٢٠١٩.
تراهن مسودّة الموازنة على ارتفاع الإيرادات بنسبة حوالي ١٥،٧ ٪ وهو أمر مشكوك بصدقيته.
- فجهد ماليّ بهذا الحجم يصعب تحقيقه في الأوقات العاديّة، فكيف بالأحرى خلال فترات الركود؟ في كلّ الأحوال هناك تضارب بين أهداف النموّ المعلنة وتأثير تدابير التقشّف على النشاط الاقتصاديّ وبالتالي على العائدات الضريبيّة.
- وهذا يصحّ بشكل خاص نظرا إلى أنّ السلطات معتادة على المبالغة إلى حدّ كبير في الأرقام المقدرة، ومن السذاجة الاعتقاد بصحّة هذه الأرقام اليوم.
- وفقًا لحساباتنا، يُحتسب تأثير التدابير الضريبيّة الرئيسيّة على سنة ماليّة كاملة. إلاّ أنّ ذلك لن يكون ممكناً في أفضل الأحوال إلاّ للنصف الثاني من العام.
- ويبدو لنا التأثير الماليّ لبعض التدابير على وجه الخصوص مبالغًا فيه إلى حد كبير، كما هو الحال بالنسبة لإحداث شطر أعلى جديد خاضع لضريبة بمعدل ٢٥% على دخل الأفراد وللضريبة على أرباح المهن الحرة.
- ما تفتقد إليه هذه الموازنة هو دراسة أثر أوليّة وجهاز إحصائي يتمتّع ببيانات موضوعيّة موثوقة، مع نموذج اقتصاد قياسيّ لقياس أثر تغيير كلّ عامل من العوامل على الدخل والتضخّم والاستهلاك والعائدات الضريبية.
٢- موازنة لا ترقى إلى مستوى الرهانات
إنّ مصدر قلقنا الأساسيّ هو أنّ مشروع الموازنة لعام ٢٠١٩ لا يعكس رغبةً حقيقيّةً في معالجة المشكلة البنويّة للماليّة العامة أو المشكلة الأكثر خطورةً المتمثلة في تمويل نموذج اقتصاديّ على آخر رمق يهدّد "بالانهيار" في كلّ لحظة.
فبدلاً من موازنة حسابية تقشّفيّة، ما يحتاج إليه لبنان هو خطّة إنقاذ تستند إلى توزيع عادل للخسائر وترشيد استعمال الأصول والموجودات العامة واختيار تدابير هادفة لحماية الفئات الاجتماعيّة الأكثر حرمانًا ولإرساء دعائم نموذج اقتصاديّ منتج.
كما وأنّ لبنان يحتاج أيضًا إلى نظام ضريبي تشاركي وإلى أسس اقتصاديّة وماليّة وطنيّة تعيد تعريف دعائم النموّ الرئيسيّة لدينا ويجعل نظامنا الضريبيّ أكثر عدلاً وتنافسيّةً وفعالية.
ولذلك فإنّ ما قد يدعو أخيرا الى التفاؤل ليس إقرار مشروع الموازنة لعام ٢٠١٩، وهو شكليّ في جوهره، بل هو البدء وبشكل عاجل في ورشة إعداد موازنة العام ٢٠٢٠ واعتبارها المرحلة الأولى من خارطة طريق تمتدّ على عدّة سنوات وتهدف إلى الخروج من الأزمة الحاليّة.