نشهد منذ فترة زيادة لافتة في التوقيفات والتحقيقات الآيلة الى الحد من حرية التعبير عن المواقف الناقدة للسلطات السياسية أو المنددة بالفساد، والتي طالت عددا من الناشطين السياسيين والبيئيين والاجتماعيين على خلفية تصريحاتهم على صفحة الفايسبوك، بحيث لا يتم الافراج عنهم إلا بشرط إزالة هذه التصريحات وإمضاء تعهد يتنازلون بموجبه عن حريتهم بالتعبير.
وإذ نسجل بقلق كبير أن هذه الأحداث والتحقيقات زاد تكرارها،
تستنكر كل من "كلنا إرادة" و
"المفكرة القانونية" هذه الممارسات القامعة للحريات، وذلك في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية الهشة التي نعيشها، والتي تتطلب تحديدا حماية الأصوات المعارضة والموالية على حد سواء، من أجل تأمين جو مؤات لنقاشات عامة سليمة ومجدية بعيدا عن القمع والتهويل،
كما يهمنا التذكير ولفت النظر إلى الأمور الآتية:
١- من واجب الدولة بجميع أجهزتها تشجيع المواطنين على كشف الفساد وفق ما ورد في اتفاقية مكافحة الفساد التي صادق عليها لبنان (المادة ١٣) وأن توجد بيئة مؤاتية لهذا التوجه، وخاصة في ظل تصاعد نسبة الفساد الذي بات يهدد أسس الدولة.
يفرض هذا الأمر على النيابات العامة بوجه خاص والقضاء بشكل عام أن يوازنوا دوما بين حرية التعبير وكشف الفساد من جهة والسمعة الشخصية من جهة ثانية: فلا يُلاحق كاشفو الفساد في حال وجود شبهات جدية على حصول أعمال فساد، ولا يعاقبون إلا بموجب محاكمة، وبعد تمكين هؤلاء من عرض أدلتهم كاملة في محاكمة علنية وعادلة. أما أن تبادر النيابة العامة، ممثلة الحق العام، للاستدعاء والتحقيق السري من دون محام والتهديد بالتوقيف لكل من تسوله نفسه طرح أسئلة حول الفساد، فذلك يعكس صورة للنيابة العامة منافية تماما لما يفترض بها أن تكون، ويولد بيئة تخويفية ردعية من شأنها إحباط أي جهد أو إرادة للكشف عن الفساد.
٢- من واجب الدولة بجميع أجهزتها الالتزام بدقة بالقانون، وبخاصة في القوانين التي تنظم الحرية الشخصية. ومن هنا نسجل بقلق شديد تجاوز النيابات العامة المتكرر لقانون اصول المحاكمات الجزائية الذي يمنع توقيف أي شخص في الجرائم التي تقل عقوبتها عن سنة حبس (المادة 107). كما نسجل بقلق الطقوس المتبعة لفرض التوقيع على تعهدات يتخلى بموجبها المواطن طوعا عن حرية التعبير كشرط لاستعادة حرية جسده.
٣- من واجب الدولة أخيرا أن تضمن للمواطنين كافة وبالتساوي فيما بينهم، مرفقا قضائيا مستقلا وعادلا وفاعلا ضمانا لحقوقهم بالتقاضي والدفاع عن النفس المكرسين بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي بات يعتبر جزءا لا يتجزأ من الدستور اللبناني. وللأسف، تأتي توجهات النيابة العامة القمعية والمخالفة للقانون كما حصل في هذه القضية، لتذكرنا دوما أن النيابة العامة تدافع عن حقوق بعض المتنفذين، أكثر مما تدافع عن حقوق العامة والدولة، ولتذكرنا أننا ما نزال بفعل التعيينات والتشكيلات القضائية وما تتيحه من محسوبية ومحاصصة، بعيدين كل البعد عن التمتع بقضاء مستقلّ. ومن هنا، نذكّر مجددا بضرورة التوقّف عن ممارسات وضع اليد على القضاء، والمبادرة لإقرار اقتراح قانون استقلال القضاء وشفافيته. ونحن نعلم أتمّ العلم أن لا مجال لضمان حرية التعبير أو بدء مكافحة الفساد جديا أو بناء الدولة من دون قضاء مستقل.