توطئة
تم اليوم طرح مشروع قانون إنشاء صندوق الثروة السيادية في لبنان على اللجان النيابية المشتركة للمراجعة.
تنص المادة الثالثة من قانون الموارد النفطية البحرية اللبناني صراحة على إنشاء صندوق للثروة السيادية مع اعتبار "القانون المنظم لهذا الصندوق، والقواعد الخاصة بإدارته وأصول الاستثمار واستعمال الإيرادات الناتجة عنه أمورًا ينظمها قانون خاص".
وينشئ القانون المقترح صندوقًا للثروة السيادية يشتمل على صندوقين فرعيين: محفظة للمدّخرات ومحفظة للتنمية. والغرض من محفظة المدَّخرات استثمار عائدات النفط لصالح الأجيال القادمة بينما تهدف محفظة التنمية إلى تقليص مستوى الدين العام، على أن تودع إيرادات أسهم الدولة (وربما حقوقها، وإن كان هذا الأمر غير واضح) في محفظة المدخرات. ويجوز للحكومة أن تستعمل جزءًا من الفوائد المحصّلة لتمويل نفقاتها. أما إيرادات الرسوم الضريبية على شركات النفط فتودع في محفظة التنمية ويمكن استعمالها لتسديد الدين العام إلى أن يصل مستوى هذا الدين إلى ٢٠ في المئة من الناتج الوطني. أما من حيث توزيع الأصول فلا يجوز لهذين الصندوقين أن يستثمرا في المشتقات المالية، إلا في ظل ظروف محدَّدة. ولا يحتوي مشروع القانون المطروح على أية محظورات أخرى بالنسبة إلى توزيع الأصول.
والقانون المقترح، وفي شكله المطروح حاليًّا، يترك مجالاً واسعًا للاستنساب أمام مديري الصندوق ويعتبر عرضة للتحول إلى مطيَّة جديدة للفساد والمحسوبية. والمخاوف الناشئة عن ذلك تشتمل على:
- دور الصندوق في إدارة الاقتصاد الكلي: فالنتيجة الصافية المترتبة على المادتين ١١ و ١٢ عرضة لأن تعني انعدام المدخرات كلّيًّا ومبلغًا صغيرًا من المال لخدمة الدين أو تسديده. غير أنه من الممكن تحقيق الهدف نفسه من دون خطر سوء الإدارة أو فرط التكاليف البيرواقراطية بمجرد وضع قانون مالي يحدُّ من تزايد النفقات أو يحدد سقفًا للدين العام. وإذا استندنا إلى تعريف صندوق النقد الدولي فإن من شأن القانون المالي "أن يفرض قيدًا طويل الأمد على السياسة المالية عبر وضع حدود رقمية على مجموع الموازنة. وتهدف القواعد المالية عادة إلى تصحيح الحوافز المشوّهة ولجم ضغوط الإفراط في الإنفاق، ولا سيما في أزمنة الرخاء، لضمان المسؤولية المالية والقدرة على الوفاء بالدين. من ذلك أن قبرص، مثلاً، قد اعتمدت القانون المالي للعام ٢٠١٢ ، مستهدفة قاعدة التوازن البنيوي في الموازنة فضلاً عن آلية التصحيح الذاتي لتقليص الدين بوتيرة سنوية. وبالعودة إلى مشروع القانون المقترح، فإن المادة ١٢ لا توضح أن "السحوبات" تعني السحوبات لصالح الخزينة، وتترك المجال مفتوحا أمام احتمال سحب الأموال لصالح حساب آخر.
- بنية الحوكمة: بصورة عامة، تعتبر صناديق الثروة السيادية في معظمها مؤسسات مستقلة. ومن هذه الناحية، تكتسي بنية الحوكمة الرشيدة أهمية عليا في تأمين الإشراف الشفاف والملائم. فمن الضروري جدًّا أن ينص مشروع القانون على أنه يلتزم بمبادئ سانتياغو التي تشتمل على ٢٤ مبدأ وممارسة عامة. وتدعو مبادئ سانتياغو هذه إلى الشفافية، والحوكمة الرشيدة، والمساءلة والممارسات الاستثمارية الحصيفة وتشجع على حوار أكثر انفتاحًا وتفهمًا أعمق لأنشطة صندوق الثروة السيادية. ويتبين من مراجعة مشروع القانون المقترح، أن بنية حوكمة الصندوق غير واضحة وربما كانت متناقضة في بعض المواضع. فمجلس إدارة الصندوق يتكوّن من خبراء يعيّنهم مجلس الوزراء، فيما يخضع الصندوق لإشراف وزير المال. غير أن وزير المال يكون، في معظم الصناديق السيادية، عضوًا في مجلس إدارة الصندوق أو هو يعيّن بعض أعضاء مجلس الإدارة. يضاف إلى ذلك أن مجلس الإدارة لا يضم أعضاء مستقلين، مثلما هي الحال أحيانًا، كما أن أدوار أعضاء هذا المجلس ومؤهلاتهم غير واضحة، وهذا يترك الباب مفتوحا على تعيين أشخاص غير مؤهلين، علاوة على أن عتبة الخمسة والثلاثين سنة لخبرة عضو مجلس الإدارة تحول دون انضمام العديد من المرشحين ذوي الكفاءة إلى هذا المجلس.
- إدارة الصندوق: تنزل وزارة المال في منزلة أدنى من مجلس الإدارة وأعلى منه في الوقت نفسه، وهي صيغة لا توجد في أي صندوق آخر على هذا الكوكب. ولا ذكر في القانون المقترح لاستعمال مصرف وصيّ، ولا للموضع المادي الذي تودع فيه الأموال ولا من هو المرجع المسؤول عن إدارة الحسابات. كما أن القانون المقترح يكتفي بذكر لجان الصندوق من دون ذكر أدوارها أو مسؤولياتها، وهذا غير مألوف في قوانين الصناديق السيادية. والإجراء الواجب هو أن يفتح حساب وحيد لصندوق الثروة السيادية كما ينبغي لكافة الإيرادات أن تودع في هذا الحساب، على أن توزع الأموال على "محفظة المدخرات" و"محفظة التنمية" من هذا الحساب. ومن شأن هذا الإجراء أن يضمن الشفافية، والإفصاح، وحسن إدارة المخاطر بحيث تُجتَنَب كثرة الحسابات التي كثيرًا ما تعني أن الأموال تحوّل إلى استعمالات أخرى.
- قواعد الاستثمار: إن غياب أية قواعد للاستثمار ومثلها نصوص الحظر على أنواع محددة من عمليات شراء الأصول (كالعقارات؛ والأسهم الأدنى من الدرجة الاستثمارية) لأمر يدعو إلى القلق. ولا يقلّ عنه إقلاقًا انعدام أية تفاصيل عن الحد الأقصى للأجور الإدارية، والإشراف من قبل مدراء خارجيين أو انتقاء المدراء الخارجيين. يضاف إلى ذلك أن هدف استثمار ٢٠ في المئة داخليا يجعل الصندوق عرضة لتوجيه الأموال نحو شركات لبنانية على صلة بمدراء الاستثمار. أخيرًا، ينبغي أن ينص القانون على معايير صارمة خاصة بتضارب المصالح وعلى عقوبات تتعلق بسوء التصرف. ونظرًا لهذه القواعد، أو لانعدامها، فإن ثمة احتمالاً كبيرًا لأن يتم استعمال الصندوق لأغراض المحسوبية والفساد. وينبغي للصندوق أن يكون مكلّفًا بالاستثمار دوليًا في الأصول المدرجة والاستثمارات العالية الدرجة. أما الاستثمارات الداخلية فيجب أن تقتصر على الاستثمارات المقررة في البنية التحتية.
- الرقابة الخارجية: لا ينص مشروع القانون على شرط يُلزم بإطلاع جمهور المواطنين على نتائج التدقيق الخارجي في الحسابات، بل يشير إلى تقرير سنوي منقّح، وهذا يعني احتمال التستر على أي سوء تصرف وعدم كشفه أمام جمهور المواطنين أو المجلس النيابي. وليس من الواضح إذا كان تقرير ديوان المحاسبة كافيًا لضمان حصول الجمهور والمجلس النيابي على معلومات كافية حول سلوك مدراء الصندوق وقراراتهم. وثمة حاجة ملحّة للتدقيق الداخلي والتدقيق الخارجي. كما يجب أن ترفع إلى مجلس الوزراء والمجلس النيابي تقارير فصلية وسنوية في هذا الشأن. وعلى التقارير الفصلية والسنوية أن تعلن على الملأ (كما نصت مبادئ سانتياغو).
- الشفافية: يجب أن يوضح القانون المقترح أن الصندوق سوف يقوم بنشر قائمة بالأصول التي يمتلكها إلى جانب قائمة بمدراء هذه الأصول. علاوة على ذلك، يجب أن يؤكد القانون على وجوب التزام الصندوق بالإفصاح عن المبالغ التي يتقاضاها المدراء. ويجب على المدراء أن يؤكدوا استقلالهم عن أية إدارة من إدارات الصندوق السيادي أو موظفيه إضافة إلى المسؤولين الرسميين ومن جملتهم المسؤولين الحكوميين ومسؤولي مصرف لبنان.
ينبغي لإنشاء صندوق ممول من عائدات النفط والغاز أن يترافق مع استراتيجية اقتصادية كلية ومالية واضحة وقانون مالي يقضي بتلبية حاجتين أساسيتين للبنان: الأولى، هي تدبُّر الآثار المحتملة التي سوف تخلّفها المداخيل الضخمة، السريعة الزوال، المتأتية من الموارد الطبيعية في اقتصاد يعاني أصلاً من متلازمة المرض الهولندي؛ والثانية، التأكد من أن هذه المداخيل تدار بمقتضى متطلبات الشفافية والمساءلة، وبخاصة على ضوء سوء أداء السلطات اللبنانية في مجال إدارة المالية العامة.
موقف المبادرة اللبنانية للنفط والغاز ومنظمة "كلنا إرادة"
صحيح أن القانون اللبناني ينصّ على وجوب تحويل عائدات النفط والغاز إلى صندوق سيادي، غير أن غاية هذا النص إنما هي في جوهرها الحيلولة دون الاستيلاء السياسي والمحسوبي على هذه الثروة.
نحن نقف بكلّيتنا إلى جانب هذه الغاية ونحتاج إلى إدراك الحقيقة التالية: أن إنشاء صندوق سيادي ليس ضمانة في ذاته. فهو إذا ما ابتلي بسوء التصميم والتنظيم وبسوء الإدارة، يمكن أن يتحوّل إلى أقنية للفساد والمحسوبية، تصرف مليارات الدولارات بعيدًا عن الخدمات الاجتماعية ومستلزمات البنية التحتية.
لذلك كانت الحاجة إلى مناقشة أي نوع من الصناديق السيادية نريد، ومثلها الغاية من صندوق كهذا، في منتهى الأهمية. إن إنشاء صندوق للثروة السيادية ليس غاية في ذاته. بل يجب أن يسخّر هذا الصندوق لخدمة غاية واضحة وأن يحقق أهدافًا محددة ومعلنة.
إن
المبادرة اللبنانية للنفط والغاز، وبالشراكة مع منظمة "كلنا إرادة" تحثّ المجلس النيابي اللبناني على عدم مراجعة مشروع القانون الحالي الهادف إلى إنشاء صندوق للثروة السيادية قبل وضع استراتيجية شاملة متفق عليها لإدارة قطاع النفط والغاز إضافة إلى استراتيجية مالية وقانون مالي. علاوة على ذلك،
١- يجب أن يحدد هدف واضح للصندوق السيادي استنادًا إلى استراتيجية اقتصادية كلية متكاملة لقطاع النفط والغاز إضافة إلى استراتيجية مالية
لما كانت صناعة النفط والغاز صناعة استخراجية، فإن مواردها متناهية حتمًا. ولذلك وجب التمعن في طريقة استعمالها لأنها غير متجدّدة. يجب أن تعامل الموارد الطبيعية باعتبارها أصولاً للأجيال الحالية والمستقبلية وألاّ تنفق كما تنفق المداخيل العادية.
هناك عدة أهداف ممكنة لصندوق الموارد الطبيعية:
- المدخرات: قد تستعمل الصناديق لتحويل الموارد الطبيعية إلى أصول مالية واستثمارها في توليد مصادر طويلة الأمد لمداخيل الحكومة من أجل الأجيال المستقبلية (من الأمثلة على ذلك صندوق بولا بوتسوانا؛ الصندوق الاحتياطي للمعاش التقاعدي في التشيلي؛ مصلحة الاستثمارات الكويتية؛ الصندوق التقاعدي لحكومة النروج؛ صندوق نفط تيمور لسته).
- توطيد الاستقرار: يمكن للصناديق أن تغطي عجز الموازنة الناشئ عن الهبوط غير المتوقع في عائدات النفط أو المعادن (مثاله صندوق توطيد الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في التشيلي؛ وصندوق نفط تيمور لسته؛ الصندوق الائتماني الدائم لمعادن وايومنغ(
- التعقيم المالي: تجذب المبيعات الضخمة لمواد النفط، والغاز أو المعادن عملات أجنبية إلى البلد، ومن شأن ذلك أن يتسبب بالتضخم أو ارتفاع سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية والإضرار بالاقتصاد تاليًا. ويمكن لعائدات استخراج الموارد الطبيعية أن تستثمر في أصول أجنبية للتخفيف من هذه التأثيرات الضارة (مثاله: مؤسسة ساما للحيازات الأجنبية في العربية السعودية(.
- التنمية: يمكن لعائدات الموارد الطبيعية أن تخصص لنفقات محددة كالصحة، أوالتربية أو التحويلات النقدية المباشرة (مثاله صندوق ألاسكا الدائم؛ وصندوق تكساس الجامعي الدائم(.
- فصل الموارد: لما كانت عائدات النفط والغاز والمعادن ثروة وطنية غير متجددة، فمن الممكن للحكومة أن تعاملها بطريقة مختلفة بحيث تجعلها بمثابة وقف وتخضعها لإجراءات شفافية وإشراف أشد صرامة من سواها من العائدات (مثاله صندوق نفط تيمور لسته(.
- لما كان لبنان يعاني أصلاً من شكل حاد من أشكال المرض الهولندي، فمن الجوهري أن يتم وضع استراتيجية اقتصادية كلية للتخلص من هذا الاقتصاد الريعي قبل أن يتدفق مصدر ريعي جديد ليكرّس نمطا كانت له آثاره الكارثية على النسيج الاجتماعي اللبناني(التدني الشديد في مجال التنافس بحيث يؤدي إلى البطالة والهجرة). ونظرًا إلى مسار الدين اللبناني غير القابل للاستدامة، وإلى اتساع الاختلال المالي والخارجي، فمن الواجب ألاّ يصمَّم صندوق للثروة السيادية قبل وضع خطة للإصلاح المالي مقبولة الصحة ديمقراطيا.ً وبالتالي، فمن الواجب ألا تخصص أية مبالغ من عائدات النفط والغاز لتقليص الدين اللبناني، قبل فهم واضح لكيفية تراكم هذا الدين ومن هم المستفيدون منه. ينبغي أن ترسم استراتيجية وطنية واضحة لتقليص عجز الموازنة على أساس مستدام، وأن يوضع قانون مالي قبل استعمال أي من أموال الصندوق السيادي للتخلص من الدين العام.
٢- ما إن يتم إقرار الهدف العام لصندوق الثروة السيادية، واستنادًا إلى رؤية اقتصادية كلية واضحة للبلد واستراتيجية واضحة لقطاع النفط والغاز، يمكن لقوانين الاستثمار وآليات الإشراف المناسبة أن تُصمّم. ينبغي لقطاع النفط والغاز الناشئ أن يغير قواعد اللعبة في النظام اللبناني عبر التأكد من تغليب أصول الحوكمة الرشيدة.
ثمة أسئلة أساسية يمكن لصانعي السياسة، والهيئات الرقابية، ومنظمات المجتمع المدني، والخبراء، والأكاديميين، وأمثالهم أن يطرحوها قبل إنشاء صندوق الثروة السيادية بغية التأكد من إرساء قواعد الحوكمة الرشيدة:
- تحديد أهداف الصندوق )أنظر أعلاه(
- وضع قوانين مالية مناسبة
- وضع الضوابط والقيود الواضحة للاستثمار
- وضع بنية مؤسساتية فعالة للحوكمة توضّح توزيع المسؤوليات وتفرض الضوابط الأخلاقية ومعايير تضارب المصالح
- إطلاع جمهور المواطنين على معلومات واسعة حول عمليات الصندوق السيادي. فالشفافية لا تعني مجرد التقارير المنتظمة، الدقيقة والمفصّلة حول أنشطة الصندوق في صيغة ميسّرة لجمهور القراء، بل وتوضيح القوانين التي تحكم الصندوق وإعلانها على الملأ.
- تشكيل هيئات رقابية مستقلة قوية لتتبّع تصرفات الصندوق.
ختامًا
أولاً، إن إنشاء صندوق سيادي ليس من شأنه، في حد ذاته، أن يحسّن حوكمة الموارد الطبيعية. بل يجب أن يأتي صندوق كهذا كنتيجة للقوانين المالية أو لإطار اقتصادي كلي يدعو إلى ادخار عائدات النفط والغاز، أو المعادن.
ثانيًا، يجب ألاّ تتفرد السلطات وحدها بإنشاء الصندوق من دون نقاش ديمقراطي حقيقي. ذلك أن مقاربة التفرد قد أفضت بعدة بلدان إلى الفشل. وما لم يتكوّن إجماع سياسي على استعمال عائدات الموارد، وما لم تتمكن الهيئات الرقابية والمجتمع المدني المطّلع من الضغط على الحكومات للالتزام بقوانينها، فإن أفضل القوانين تظل عادة بلا جدوى إن لم تتّبع.