بعد إحالة نص القانون المتعلّق بتعديل أحكام السريّة المصرفيّة إلى رئاسة الحكومة، تسرّبت الصيغة الأخيرة لهذا القانون، وبات بالإمكان التعليق عليها. فكما هو معلوم، أصبح إقحام التعديلات والإضافات إلى القوانين بعد التصويت عليها في الهيئة العامّة للمجلس ظاهرة متكرّرة في السنوات الماضية، وهو ما يفرض ترقّب آخر مسودّات القوانين بعد صياغتها في أمانة سر المجلس، بمعزل عن ما تم التصويت عليه رسميًّا. من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم الفرق الكبير بين بعض الانتقادات المستجدة القاسية على آخر صيغ هذا القانون، والتفاؤل الذي تلا التصويت على بنوده في الهيئة العامّة للمجلس النيابي (راجع المدن).
شكوك في مكانها
أربع منظمات، هي "كلنا إرادة" و"المفكرة القانونيّة" و"الجمعيّة اللبنانيّة لحقوق المكلفين" و"لجنة حماية حقوق المودعين لدى نقابة المحامين في بيروت"، واكبت منذ البداية هذا المسار التشريعي، ورصدت في بيانات ومؤتمرات صحافيّة سابقة جميع الأفخاخ التي حاولت لجنة المال والموازنة نصبها داخل هذا القانون. وبعد إحالة القانون إلى رئاسة مجلس الوزراء للتوقيع، أصدرت المنظمات الأربع ورقة مشتركة تلخّص موقفها من صيغته الأخيرة للقانون، مشيرة إلى التعديلات التي تمكنت من فرضها فيه، والثغرات التي أصرّ المشرّعون على إبقائها.
في مقدّمة الورقة، كان من الملفت الإشارة إلى أنّ المجلس النيابي أقرّ هذه المسودّة في جلسته المنعقدة في 18 تشرين الأوّل 2022، بعدما أدخل تعديلات عديدة عليها، إلى أنّ توقيع رئيس المجلس النيابي على القانون لم يأت إلا بعد ستّة أيّام كاملة، ما أثار شكوك هذه المنظمات حول إمكانيّة حصول إضافات عليها أو حذف منها، بخلاف ما أقرّه غالبيّة النوّاب. وفي النتيجة، هذا تحديدًا ما جرى، ما يعني أن الشكوك كانت في مكانها الصحيح.
على أي حال، رحّبت الورقة بحصول عدد من التعديلات على القانون في صيغته النهائيّة، بما يتماشى مع ما طلبته المنظمات الحقوقيّة سابقًا، إلا أنّها بالمقابل ظلّت متوجّسة "حيال تضمينه أحكامًا من شأنها الحد من فعاليّتها أو إلغائها بالكامل". فالصيغة الأخيرة للقانون تبقى الأكثر تطورًا في مجال رفع السريّة المصرفيّة، لكنّها "ما زالت تحتوي رغم ذلك على مجموعة من النصوص والآليات المعقدة والملتبسة". وفي حين أن تطوّر الصيغة "يعكس زخم الإرادات الوطنية وضغوط صندوق النقد الدولي لإنجاز الإصلاحات اللازمة لتعافي الاقتصاد اللبناني، فإن الاستمرار في وضع نصوص معقدة وملتبسة يعكس بالمقابل ممانعة من قوى برلمانية وازنة ضد هذه الإصلاحات".
هواجس رغم بعض الإيجابيّات والخروقات
وقبل الدخول في تفاصيل الثغرات، عددت الورقة بعض الخروقات الإيجابيّة في القانون، ومنها:
- توسيع فئات الأشخاص الذين لا تطبق عليهم أحكام السرية المصرفية. فبعدما كانت لجنة المال اقترحت رفع السرية عن الموظفين العامين والقائمين بمسؤوليات وخدمات عامة، ورؤساء ومدراء الجمعيات السياسية والمرشحين لوكالات عامة، أضافت للهيئة العامّة إليهم رؤساء وأعضاء مجالس إدارة المصارف ومدراءها التنفيذيين، ومدققي الحسابات الحاليين والسابقين، كما ورؤساء وأعضاء مجالس إدارة الشركات التي تدير أو تملك الوسائل الإعلامية المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية، فضلا عن هيئات المجتمع المدني (وهو تعريف مبهم).
- شمل رفع السرية المصرفية عائلات الموظفين ورؤساء الجمعيات ومدرائها والأسماء المستعارة عنهم وأصحاب الحق الاقتصادي.
إلا أنّ الورقة تحفّظت على بعض بنود القانون المتعلّقة بهذه الفئات، لكونها لم تشمل "عائلات أصحاب المصارف والمؤسسات الإعلامية ولا الأسماء المستعارة عنهم ولا أصحاب الحق الاقتصادي. كما أن رفع السرية عن شبكات الشركات (تملكات متسلسلة ووسائل سيطرة مباشرة وغير مباشرة) اقتصر على شبكات الشركات المتصلة بمدراء الجمعيات السياسية وهيئات المجتمع المدني والمرشحين للحصول على وكالة عامة من دون مجمل الفئات الأخرى".
وأكثر ما أقلق المنظمات التي أعدّت الورقة كان الإصرار على ربط رفع السرية عن الفئات المذكورة بقوانين تبييض الأموال والإثراء غير المشروع ومكافحة الفساد في القطاع العام، من دون أي مبرر، خصوصاً أن القوانين المذكورة تجعل هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان المدخل الوحيد للحصول من المصارف على معلومات مصرفية. كما زاد من مخاوف هذه المنظمات مضمون القانون رقم 32/2008، الذي لم يصر إلى إلغائه لإزالة أو تفادي كل لبس أو إلتباس أو إبهام أو تناقض يعطل تطبيق النص على النحو المراد. مع الإشارة إلى أنّ مضمون هذا القانون يحصر كل آليّات رفع السريّة المصرفيّة بهيئة التحقيق الخاصّة، وهو ما لم ينص القانون الجديد على الرجوع عنه بشكل صريح.
على أي حال، تأمّلت الورقة هنا أن يقرأ النص "وفق مبادئ حسن النية على نحو يؤدي إلى إسقاط السرية المصرفية تماماً عن هذه الفئات من دون حاجة المرور بأي جهاز إداري أو قضائي. وبكلمة أخرى، تفعيل القانون وليس تعطيله"، وهو ما سيعني أن هذه المنظمات ستحتاج إلى خوض معركة تطبيق القانون بما يتناسب مع أهدافه الأساسيّة، للحؤول دون تعطيله كما جرى في العديد من القوانين الإصلاحيّة الأخرى.
ألغام إضافيّة
بمعزل عن كل هذه الهواجس، التي ستبقى صحّتها مرهونة بطريقة تنفيذ القانون، عددت الورقة بعض الألغام الإضافيّة الواضحة والصريحة في النص، ومنها تحديدًا:
- أضاف مشروع القانون للإدارة الضريبية إمكانية الحصول على معلومات لحاجات التدقيق وضمان الالتزام بالضرائب، وليس فقط لحاجات مكافحة التهرب الضريبي كما كان الوضع من قبل. إلا أنه عاد ليوقف صلاحية هذه الإدارة بصدور مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية، لتحديد آلية طلب المعلومات من المصارف. وبذلك، سيكون تنفيذ هذا الجانب من القانون مرهونًا بصدور هذا المرسوم، وبمندرجات هذا المرسوم، ما قد يهدد بعرقلة تنفيذه لغايات التحقق الضريبي لاحقًا.
- عدّد مشروع القانون الهيئات الناظمة والرقابية للمصارف (مصرف لبنان، لجنة الرقابة على المصارف ومؤسسة ضمان الودائع) ضمن المراجع المخولة طلب معلومات مصرفية، إلا أنه عاد وقيد صلاحيات هذه الهيئات بآليات معيّنة، كالحصول على معلومات عامة فقط، من دون أي معلومات عن حساب معين أو عميل معين، بالإضافة إلى تمكين المتضرر من تقديم اعتراض على الطلب أمام قاضي الأمور المستعجلة بما يسمح بتعطيل عمليّة رفع السريّة المصرفيّة. أمّا الأخطر، فهو تعليق صلاحية هذه الهيئات على صدور مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية لتحديد آلية طلب المعلومات. ومؤدى ذلك هو الحؤول دون نفاذ القانون مباشرة بعد نشره، بالنسبة إلى هذه الهيئات.
- تشير الورقة إلى أنّ المنظمات الحقوقيّة الأربع كانت قد طالبت بإلغاء عقوبة الحبس عن الإفشاء بالسرية المصرفية، خشية أن تؤدي العقوبة إلى ردع أو تخويف من هو ملزم بمنح معلومات بناء على طلب أحد المراجع. لكن في النتيجة، لم تلغ عقوبة الحبس، إنما أضيف جرم جديد هو جرم "نشر بيانات تم الحصول عليها بمعرض تطبيق هذا القانون وخلافاً لأحكامه"، مما يشكل حماية غير مبررة ويحد من الكشف عن الفساد، ويعرض المراجع المعنية بطلب معلومات لمسؤوليات محتملة في حال الكشف عن المعلومات المصرفية التي في حوزتها. وأكّدت الورقة أن هذه العبارة أضيفت على صيغة مشروع القانون من دون أن تكون خضعت لأي مناقشة أو مصادقة من قبل المجلس، في مصادرة واضحة لإرادة النوّاب.
في الخلاصة، وجدت الورقة أنّ القانون تمكّن من تحقيق بعض الاختراقات لجهة توسيع مروحة الفئات التي لم تعد تستفيد من السريّة المصرفيّة، إلا أنّ القانون ما زال يحتوي على أحكام قادرة على الحد من فعاليّته، وتعطيل الإصلاحات المرجوّة منه. وهذه الأحكام، ومنها الإضافات التي أدخلت بعد انتهاء جلسة المناقشة والتصويت، تنمّ عن استمرار ممانعة وازنة لدى القوى السياسية الحاكمة حيال أي إصلاح أو خرق في جدار السرية المصرفية.
المقال متوفر هنا على موقع "المدن".