رفع الدعم بشكلٍ عشوائيّ سياسةٌ إجراميّةٌ أخرى

٢٠ آب ٢٠٢١

في خطوةٍ كرّست انفصالها التامّ عن الواقع، عجزها و/أو عدم رغبتها باتّخاذ أيّ تدابير فعّالة لكبح الانهيار الاقتصادي، أمعنتْ السلطة السياسية والمالية في إقرار سياساتٍ فشلت في الاستجابة للأزمة، بل وأقحمتْ المجتمع اللبناني بمخاطر وجوديّة. فمع نهاية عام 2020، أعلن مصرف لبنان من أنّ انخفاض احتياطي العملات الأجنبية سيؤدّي إلى رفع الدعم عن استيراد سلعٍ استهلاكيّة حيويّة وملحّة، لا سيّما القمح والوقود والأدوية والمعدّات الطبية وغيرها من المنتجات الأساسية. وفي 11 آب/أغسطس، أُعلن القرار المتعلّق باستيراد المحروقات. وبالتالي، باتت مسألة دعم السلع الأساسية بالعملات الأجنبية، حديث الساعة في بلدٍ تمزّقه الأزمات المتتالية.


فبدلاً من إصلاح نظام دعمٍ عديم الجدوى يشوبه الفساد، متردٍ وغير مستدامٍ، وربطه بسياسةٍ مبرمجة للتحويلات النقدية، والأهمّ من ذلك، الانتقال نحو مقاربة حقوقية للسياسة الاجتماعية، اعتمدت السلطة سياسة الإهمال المستمرة التي ليست سوى سياسة إجراميّة.


ولا بدّ لنا هنا، من التوقّف عند التداعيات الكارثيّة للتضخّم الناجم عن تحرير سعر الصرف، في ظلّ غياب شبكة أمان فاعلة تستهدف المواطنين الذين يواجهون نقصًا في الاحتياجات الأساسية، كالوقود والأدوية.


وعلى الرّغم من أنّ نظام الدعم في لبنان هو فعلًا نظامٌ غير مستدامٍ، ترى "كلّنا إرادة" أنّه لا يمكن التطرّق لهذه المسألة خارج السياق الأوسع، وتحديدًا أزمة ميزان المدفوعات والقدرة على معالجة تداعياتها، بما في ذلك تدهور الأنشطة الاقتصادية وانخفاض مستويات العيش، وضرورة الحدّ من وقعها على الشريحة الأكثر حاجة وفقرًا، وذلك بالتزامن مع إرساء أسسٍ تساهم في بناء اقتصادٍ وطنيّ أكثر ازدهارًا لجميع اللبنانيّين.


لا يمكن لهذا النظام أن يستمر. فهو أولًا مسؤول عن استنفاد أكثر من خمسة مليارات دولار سنويًّا من العملات الأجنبية. وهو ثانيًا، يحقّق المنفعة للأغنياء أكثر من الفقراء. كما أنّه، ثالثًا، ومن خلال خفضه أسعار المنتجات المستوردة، يتسبّب بتشوّهات في السوق، ما يحدّ من القدرة التنافسية للمنتجات المحلية البديلة، لا بل يؤدّي إلى تفاقم عمليات الاحتكار والتخزين، البيع في السوق السوداء والتهريب عبر الحدود. وهو أخيرًا، يخدم شبكة مصالح مزدوجة، مرتبطة بمنظومة الأمر الواقع، السياسية والطائفية. وعليه، فإنّ مؤيّدي هذا النهج يشدّدون على أهميّة رفع الدعم والحدّ من تدفّق العملة الصعبة نحو الخارج.


تمّ اتّخاذ قرار رفع الدعم بدءًا من المحروقات، في ظلّ غياب أيّ سياسة بديلة، وذلك في محاولة لوقف استنزاف وإنفاق احتياطي المصرف المركزي على دعم السلع الأساسية. وقد استند القرار إلى معطياتٍ غير دقيقة، تشوّه المعادلة التي بدا معها وكأنّ لبنان أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا الاستمرار في الإنفاق من دون خطةٍ واضحةٍ لبضعة أشهر أخرى أو التمديد للسلطة القائمة عبر "تقنين" الدعم على بعض السلع ورفعه عن سلعٍ أخرى. يستند نهج "التقنين" إلى مقاربة رقميّة بحتة لدى التعامل مع العملات الأجنبية، بحيث يتغاضى عن تحقيق الرفاه الاجتماعي أو المصلحة العامة للمواطنين والمقيمين، الذين يدفعون الأثمان الباهظة عند كلّ حدثٍ أو مناسبة.


نؤكّد بدورنا ضرورة مناقشة هذه الإشكاليّة من منظورٍ يتعدّى مسألة الحفاظ على نظام الدعم أو رفعه. فوفقًا للبنك الدولي، من شأن رفع الدعم أن يؤدّي إلى زيادة التضخّم بنسبة 24%، من دون احتساب التأثير المتوقع لسعر صرف الدولار، ما يؤدّي حتمًا إلى تدهور إضافي في قيمة الليرة اللبنانية، ويفاقم بالتالي معدّلات التضخّم والتدهور النقدي. ومن هذا المنطلق، سيترتّب عن عمليّة رفع الدعم تداعيات ملموسة، لا سيّما أنّ 72٪ من الأسر يتدنّى مدخولها عن 2.4 مليون ليرة لبنانية شهريًّا، أي ما يعادل 200 دولار أميركي وفق سعر صرف السوق السوداء.


وممّا لا شك فيه، أنّ عمليّة دعم السلع ساهمت في حماية القدرة الشرائية للّبنانيّين، وبالتالي في تفادي مزيدٍ من التدهور، نتيجة انخفاض قيمة الليرة اللبنانية. لكن الأهمّ من ذلك، أنّ الدعم ليس السبب الأبرز لاستنفاد العملات الأجنبية. ففي الفترة الممتدة بين تشرين الأول/أكتوبر 2019 وتشرين الأول/أكتوبر 2020، هبطت احتياطيّات مصرف لبنان من العملات الأجنبية بقيمة 13 مليار دولار، في حين لم تتجاوز قيمة الدعم 5 مليارات دولار. بمعنى آخر، تمّ تحويل مليارات عديدة من الدولارات العائدة لشخصياتٍ سياسية بارزة وجهاتٍ نافذة، خلال الأشهر التي تلت ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر، على حساب باقي المودعين.


لو كان لدينا صنّاع قرار، كان يتعيّن عليهم مقاربة الإشكاليّات الآتية: مَن هي الفئات الأكثر تضرّرًا نتيجة رفع الدعم؟ كيف يمكن تعويض تداعيات ارتفاع الأسعار على الطبقتين الوسطى والفقيرة؟ وما مدى استعدادنا لاستخدام احتياطيّات مصرف لبنان لهذا الغرض، مع الحفاظ على مقدارٍ كافٍ من احتياطي العملات الأجنبية؟ أمّا الإجابة فكانت لتتمحور حول إمكانيّة اعتماد مبدأ المقايضات، على أن يرتبط حجمها وتأثيرها بمسار إعادة هيكلة الدعم، من حيث اعتباره جزءًا من حزمة إصلاحات كبرى تتوافق مع إطار اقتصادٍ كليّ يتمتّع بالثقة والمصداقيّة، وذلك بالتوازي مع تأمين التمويل الخارجي.

كلّ ما ذُكِر أعلاه لا يتمّ النظر فيه.


لا تزال "كلّنا إرادة" تتمسّك بقناعتها فيما يتعلّق بوجود سياسة بديلة يمكنها أن تستعيض عن إشكاليّة تحرير سعر الصرف باعتماد سياسة دعم أكثر كفاءة وفعاليّة، مقترنةً بتحويلاتٍ نقدية مباشرة بالدولار الأميركي، وبكلفة إجمالية تبلغ نحو مليارَي دولار أميركي.


تشمل هذه السياسة:


التدقيق في أصول العملات الأجنبية المتبقية لدى المصرف المركزي وحقوق السحب الخاصّة للبنان (SDR) المنوي الحصول عليها، كما وإدارتها وفق استراتيجيّةٍ مبنيّةٍ على خطّة مالية كلّية شاملة تضمن تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وبالتالي إعادته إلى مسار التعافي والانتعاش.


أمّا الحاجة الأكثر إلحاحًا اليوم، فهي إطلاق شبكة أمان اجتماعي متينة تعتمد مقاربة ثلاثيّة الأبعاد:


1- برنامج مساعداتٍ نقديّة مباشرة، واسعٌ وشفّافٌ، يتمّ صرفه بالدولار الأميركي، نظرًا لغياب سعر صرف موحّد، أضف إلى تداعيات تضخّم الليرة اللبنانية في الأسواق. ومن المهمّ أن تتمّ إدارة البرنامج المذكور بشفافيّة تامّة، استنادًا إلى معايير واضحة تحدّد الفئات المحتاجة، وذلك سعيًا إلى تجنّب ووضع حدّ للزبائنية المتمثّلة بالسلطة الطائفية، التي نهبت موارد الدولة عبر سنواتٍ طويلة.


2- تُعدّ السياسات التكميليّة القصيرة الأمد أساسيّة لتفعيل الآثار الإصلاحية لنظام الدعم، بحيث تشمل: أ) جرد الأصول القابلة للاستخدام وضوابط رأس المال الفاعلة (الكابيتال كونترول)، للحدّ من استنزاف العملات الأجنبية؛ ب) وقف احتكار الاستيراد وفتح أفق المنافسة للتخفيف من تداعيات رفع الدعم على المستهلكين؛ ج) رفع السريّة المصرفيّة لضمان وصول المساعدات النقدية لمستحقّيها. كلّ هذه التدابير ضروريّة لضمان إقرار نظام دعمٍ فعّالٍ يشمل الوقود والأدوية والقمح.


وفي هذا السياق، نقدّر كلفة البرنامجين المذكورين أعلاه، بقيمة مليارَي دولار أميركي.


3- والأهمّ من ذلك، توجيه السياسات العامّة نحو اعتماد مقاربة حقوقيّة، بدءًا من الرعاية الصحية الشاملة، كما التعليم المجّاني للأطفال.


بعد 20 شهرًا من التراخي والتقاعس المستمر تجاه الأزمة الأكثر سوءًا وتدميرًا في تاريخ لبنان المعاصر منذ انتهاء الحرب الأهلية، كشفت الوقائع أنّ النظام السياسي الحالي لم يعد قادرًا على إدارة البلاد بشكلٍ فعّال. لذلك، فإنّ تشكيل حكومة مؤقّتة، مستقلة تتمتّع بصلاحياتٍ تشريعيّة استثنائيّة، يبقى اليوم، وأكثر من أيّ وقت مضى، أفضل فرصة لإنقاذ لبنان من الانحدار نحو الهاوية، كما لاستعادة ثقة الشعب اللبناني والشركاء الدوليّين، وتمهيد الطريق نحو تحقيق التعافي الشامل والمستدام لجميع الشرائح الاجتماعيّة. إنّنا بأمسّ الحاجة لوقف الانهيار الاجتماعي والاقتصادي اللامتناهي، وبالتالي اعتماد خطّة مالية كلّية شاملة ضمن إطار عقدٍ اجتماعيّ جديد.

تحميل الملف

أزمة لبنان

في حين يواجه لبنان أسوأ أزمة اقتصادية ونقدية ومالية ومصرفية واجتماعية، تسعى منظمة "كلنا إرادة" إلى تعزيز التطور السريع لخطة إنقاذ على أساس مبادئ العدالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية.

إنضم إلى قائمتنا البريدية